فصل: تفسير الآيات (70- 72):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (70- 72):

{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)}
{ألم يأتهم} رجع من الخطاب إلى الغيبة يعني ألم يأت هؤلاء المنافقين والكفار وهو استفهام بمعنى التقرير أي قد تاهم {نبأ} يعني خبر {الذين من قبلهم} يعني الأمم الماضية الذين خلوا من قبلهم كيف أهلكناهم حين خالفوا أمرنا وعصوا رسلنا ثم ذكرهم فقال تعالى: {قوم نوح} يعني أنهم أهلكوا بالطوفان {وعاد} أهلكوا بالريح العقيم {وثمود} أهلكوا بالرجفة {وقوم إبراهيم} أهلكوا بسلب النعمة وكان هلاك نمرود ببعوضة {وأصحاب مدين} وهم قوم شعيب أهلكوا بعذاب يوم الظلة {والمؤتفكات} يعني المنقلبات التي جعل الله عاليها سافلها وهي مدائن قوم لوط.
وإنما ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الطوائف الستة، لأن آثارهم باقية وبلادهم بالشام والعراق واليمن وكل ذلك قريب من أرض العرب، فكانوا يمرون عليهم ويعرفون أخبارهم {أتتهم رسلهم بالبينات} يعني بالمعجزات الباهرات والحجج الواضحات الدالة على صدقهم فكذبوهم وخالفوا أمرنا كما فعلتم أيها المنافقون والكفار فاحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم فتعجل لكم النقمة كما عجلت لهم {فما كان الله ليظلمهم} يعني بتعجيل العقوبة {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} يعني أن الذي استحقوه من العقوبة بسبب ظلمهم أنفسهم.
قوله عز وجل: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} لما وصف الله المنافقين بالأعمال الخبيثة والأحوال الفاسدة ثم ذكر بعده ما أعد لهم من أنواع الوعيد في الدنيا والآخرة عقبة بذكر أوصاف المؤمنين وأعمالهم الحسنة وما أعد لهم من أنواع الكرامات والخيرات في الدنيا والآخرة فقال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} يعني الموالاة في الدين واتفاق الكلمة والعون والنصرة.
فإن قلت: إنه سبحانه وتعالى قال في وصف المنافقين: بعضهم من بعض وقال في وصف المؤمنين: بعضهم أولياء بعض فما الفائدة في ذلك.
قلت: لما كان نفاق الأتباع وكفرهم إنما حصل بتقليد المتبوعين وهم الرؤساء والأكابر وحصل بمقتضى الطبيعة أيضاً قال فيهم بعضهم من بعض ولما كانت الموافقة الحاصلة بين المؤمنين بتسديد الله وتوفيقه وهدايته لا بمقتضى الطبيعة وهوى النفس وصفهم بأن بعضهم أولياء بعض فظهر الفرق بين الفريقين وظهرت الفائدة.
وقوله سبحانه وتعالى: {يأمرون بالمعروف} يعني بالإيمان بالله ورسوله واتباع أمره والمعروف كل ما عرف في الشرع من خير وبر وطاعة {وينهون عن المنكر} يعني عن الشرك والمعصية والمنكر كل ما ينكره الشرع وينفر منه الطبع وهذا في مقابلة ما وصف به المنافقون وضده {ويقيمون الصلاة} يعني الصلاة المفروضة ويتممون أركانها وحدودها {ويؤتون الزكاة} يعني الواجبة عليهم وهو في مقابلة ويقبضون أيديهم {ويطيعون الله ورسوله} يعني فيما يأمرهم به وهو في مقابلة نسوا الله فنسيهم {أولئك} يعني المؤمنين والمؤمنات الموصوفين بهذه الصفات {سيرحمهم الله} لما ذكر الله ما وعد به المنافقين من العذاب في نار جهنم ذكر ما وعد به المؤمنين والمؤمنات من الرحمة والرضوان وما أعد لهم في الجنان والسين في قوله سيرحمهم الله للمبالغة والتوكيد {إن الله عزيز حكيم} وهذا يوجب المبالغة في الترغيب والترهيب لأن العزيز هو الذي لا يمتنع عليه شيء أراد فهو قادر على إيصال العقوبة لمن أراد والحكيم هو الذي يدبر عباده على ما يقتضيه العدل والإنصاف {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها} لما ذكر الله في الآيات المتقدمة وعيد المنافقين وما أعد لهم في نار جهنم من العذاب ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآية ما وعد به المؤمنين من الخير والثواب والمراد بالجنات التي تجري من تحتها الأنهار البساتين التي يتحير في حسنها الناظر لأنه سبحانه وتعالى قال ومساكن طيبة في جنات عدن والمعطوف يجب أن يكون مغايراً للمعطوف عليه فتكون مساكنهم في جنات عدن ومناظرهم الجنات التي هي البساتين فتكون جنات عدن هي المساكن التي يسكنونها والجنات الآخر هي البساتين التي يتنزهون فيها فهذه فائدة المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه والفرق بينهما {ومساكن طيبة} يعني ومنازل يسكنونها طيبة {في جنات عدن} يعني في بساتين خلد وإقامة يقال عدن بالمكان إذا أقام به.
روى الطبري بسنده عن عمران بن حصين وأبي هريرة قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ومساكن طيبة في جنات عدن قال: قصر من لؤلؤة في ذلك القصر سبعون داراً من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتاً من زمردة خضراء في كل بيت سبعون سريراً على كل سرير سبعون فراشاً من كل لون على كل فراش زوجة من الحور العين» وفي رواية: «كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لوناً من طعام وفي كل بيت سبعون وصيفة ويعطى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله أجمع» وروي بسنده عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عدن داره يعني دار الله التي لم ترها عين ولا تخطر على قلب بشر وهي مسكنه ولا يسكنها مع بني آدم غير ثلاثة النبيين والصديقين والشهداء يقول الله عز وجل طوبى لمن دخلك» هكذا رواه الطبري فإن صحت هذه الرواية فلابد من تأويلها فقوله عدن داره يعني دار الله وهو من باب حذف المضاف تقديره عدن دار أصفياء الله تعالى التي أعدها لأوليائه وأهل طاعته والمقربين من عباده.
عن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» أخرجه البخاري ومسلم. وقال عبد الله بن مسعود: عدن بطنان الجنة يعني وسطها. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: إن في الجنة قصراً يقال له عدن حوله البروج والمروج له خمسة آلاف باب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد. وقال عطاء بن السائب: عدن نهر في الجنة خيامه على حافتيه، وقال مقاتل والكلبي: عدن أعلى درجة في الجنة فيها عين التسنيم والجنان حولها محدقة بها وهي مغطاة من حيث خلقها الله حتى ينزلها أهلها وهم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن شاء الله وفيها قصور الدر والياقوت والذهب فتهب ريح طيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الأبيض.
قال الإمام فخر الدين الرزي: حاصل هذا الكلام أن في جنات عدن قولين:
أحدهما: أنه اسم علم لموضع معين في الجنة وهذ الأخبار والآثار تقوي هذا القول قال صاحب الكشاف وعدن علم بدليل قوله: {جنات عدن التي وعد الرحمن عباده} والقول الثاني إنه صفة للجنة.
قال الأزهري: العدن مأخوذ من قولك: عدن بالمكان إذا أقام به. يعدن عدواناً فبهذا الاشتقاق قالوا: الجنات كلها جنات عدن.
وقوله سبحانه وتعالى: {ورضوان من الله أكبر} يعني أن رضوان الله الذي ينزله عليهم أكبر من كل ما سلف ذكره من نعيم الجنة {ذلك هو الفوز العظيم} إشارة إلى ما تقدم ذكره من نعيم الجنة والرضوان.
(ق) عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير كله في يديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون وأي شيء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط بعده عليكم أبداً».

.تفسير الآيات (73- 74):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)}
قوله سبحانه وتعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار} يعني بالسيف والمحاربة والقتال {والمنافقين} يعني وجاهد المنافقين واختلفوا في صفة جهاد المنافقين وسبب هذا الاختلاف أن المنافق هو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام ولما كان الأمر كذلك لم تجز مجاهدته بالسيف والقتال لإظهار الإسلام فقال ابن عباس: أمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان وإذهاب الرفق عنهم وهذا قول الضحاك أيضاً وقال ابن: مسعود بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه.
وقال الحسن وقتادة: بإقامة الحدود عليهم بعين إذا تعاطوا أسبابها وهذا القول فيه بعد لأن إقامة الحدود واجبة على من ليس بمنافق فلا يكون لهذا تعلق بالنفاق وإنما قال الحسن وقتادة وذلك لأن غالب من كان يتعاطى أسباب الحدود فتقام عليهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم المنافقون.
قال الطبري: وأولى الأقوال قول ابن مسعود لأن الجهاد عبارة عن بذل الجهد وقد دلت الآية على وجوب جهاد المنافقين وليس في الآية ذكر كيفية ذلك الجهاد فلابد من دليل آخر وقد دلت الدلائل المنفصلة أن الجهاد مع الكفار إنما يكون بالسيف ومع المنافقين بإظهار الحجة عليهم تارة وبترك الرفق بهم تارة وبالانتهار تارة وهذا هو قول ابن مسعود {واغلظ عليهم} يعني شدد عليهم بالجهاد والإرهاب {ومأواهم جهنم وبئس المصير} بمعنى أن جهنم مسكنهم وبئس المصير مصيرهم إليها.
فإن قلت كيف ترك النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهر أصحابه مع علمه بهم وبحالهم.
قلت: إنما أمر الله عز وجل نبيه سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بقتال من أظهر كلمة الكفر وأقام على إظهارها.
فأما من تكلم بالكفر في السر فإذا اطلع عليه أنكره ورجع عنه وقال: إني مسلم فإنه يحكم بإسلامه في الظاهر في حقن دمه وماله وولده وإن كان معتقداً غير ذلك في الباطن لأن الله سبحانه وتعالى أمر بإجراء الأحكام على الظواهر فلذلك أجرى النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين على ظواهرهم ووكل سرائرهم إلى الله سبحانه وتعالى لأنه العالم بأحوالهم وهو يجازيهم في الآخرة بما يستحقون.
قوله عز وجل: {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم} اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآية فقال عروة بن الزبير: نزلت في الجلاس بن سويد أقبل هو وابن امرأته مصعب من قباء. فقال الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقاً لنحن شر من حمرنا هذه التي نحن عليها فقال مصعب: أما والله يا عدو الله لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم بما قلت وخفت أن ينزل في القرآن أو أن تصيبني قارعة أو أن أخلط بخطيئته فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أقبلت أنا والجلاس من قباء فقال كذا وكذا ولولا مخافة أن أخلط بخطيئته أو تصيبني قارعة ما أخبرتك.
قال فدعا الجلاس، فقال له: يا جلاس أقلت ما قال مصعب؟ فحلف ما قال، فأنزل الله عز وجل: يحلفون بالله ما قالوا: الآية.
وروي عن مجاهد ونحوه. وقال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في ظل حجرة فقال: «إنه سيأتينكم إنسان فينظر إليكم بعين الشيطان فإذا جاء فلا تكلموه»، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «علام تشتمني أنت وأصحابك»؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا وما فعلوا حتى تجاوز عنه فأنزل الله عز وجل: يحلفون بالله ما قالوا. ثم نعتهم جميعاً إلى آخر الآية.
وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار وكانت جهينة حلفاء الأنصار فظهر الغفاري على الجهني فقال عبد الله بن أبي سلول للأوس: انصروا أخاكم فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك، وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فسأله فحلف بالله ما قال فأنزل الله هذه الآية، هذه روايات الطبري.
وذكر البغوي عن الكلبي قال: نزلت في الجلاس بن سويد وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك فذكر المنافقين وسماهم رجساً وعابهم فقال الجلاس: لئن كان محمد صادقاً لنحن شر من الحمير فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس. فقال الجلاس: كذب يا رسول الله عليّ فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلفا عند المنبر فقام الجلاس عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما قاله ولقد كذب على عامر ثم قام عامر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد قاله وما كذبت عليه ثم رفع عامر يده إلى السماء فقال: اللهم أنزل على نبيك تصديق الصادق منا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون آمين فنزل جبريل عليه السلام قبل أن يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ فإن يتوبوا يك خيراً لهم فقام الجلاس فقال: يا رسول الله أسمع الله قد عرض علي التوبة صدق عامر بن قيس فيما قاله لقد قلته وأنا أستغفر الله وأتوب إليه فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه فتاب وحسنت توبته فذلك قوله سبحانه وتعالى: {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم} يعني أظهروا كلمة الكفر بعد إسلامهم وتلك الكلمة هي سب النبي صلى الله عليه وسلم فقيل: هي كلمة الجلاس بن سويد لئن كان محمد صادقاً لنحن شر من الحمير وقيل هي كلمة علد الله بن أبي سلول لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وستأتي القصة في موضعها في سورة المنافقين إن شاء الله تعالى.
قوله سبحانه وتعالى: {وهموا بما لم ينالوا} قال مجاهد: همَّ الجلاس بقتل الذي سمع مقالته خشية أن يفشيها عليه وقيل همَّ عبد الله بن أبي بن سلول وكان همه قوله لئن رجعنا إلى المدينة فلم ينله وقيل: همَّ اثنا عشر رجلاً من المنافقين بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقفوا على العقبة وقت رجوعه من تبوك ليقتلوه فجاء جبريل عليه السلام فأخبره وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم فأرسل حذيفة لذلك.
وقال السدي: قال المنافقون إذا رجعنا إلى المدينة عقدنا على رأس عبد الله بن أبي سلول تاجاً فلم يصلوا إليه {وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله} يعني وما أنكروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله والمعنى أن المنافقين علموا بضد الواجب فجعلوا موضع شكر النبي صلى الله عليه وسلم أن نقموا عليه وقيل إنهم بطروا النعمة فنقموا أشراً وبطراً وقال ابن قتيبة: معناه ليس ينقمون شيئاً ولا يتعرفون إلا الصنع وهذا كقول الشاعر:
ما نقم الناس من أمية إلا ** أنهم يحلمون إن غضبوا

وهذا ليس مما ينقم وإنما أراد أن الناس لا ينقمون عليهم شيئاً فهو كقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ** بهنَّ فلول من قراع الكتائب

أي ليس فيهم عيب.
قال الكلبي: كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم. فعلى هذا القول يكون الكلام عاماً. وقال عروة: كان الجلاس قتل له مولى فأمر له النبي صلى الله عليه وسلم بديته فاستغنى. وقال قتادة: كانت لعبد الله بن أبي دية فأخرجها رسول الله صلى الله عليه وسلم له. وقال عكرمة إن مولى لبني عدي قتل رجلاً من الأنصار فقضى له النبي صلى الله عليه وسلم بالدية اثني عشر ألفاً وفيه نزلت {وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله} {فإن يتوبوا يك خيراً لهم} يعني: فإن يتوبوا من كفرهم ونفاقهم يك ذلك خيراً لهم في العاجل والآجل {وإن يتولوا} يعني وإن يعرضوا عن الإيمان والتوبة ويصروا على النفاق والكفر {يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا} يعني بالخزي والإذلال {والآخرة} أي ويعذبهم في الآخرة بالنار {وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير} يعني وليس لهم أحد يمنعهم من عذاب الله أو ينصرهم في الدنيا والآخرة.